مع عبدالكريم الكابلي – ٢ –

(عبدالله محمد عبدالله)
يبدو الأستاذ عبدالكريم الكابلي كمن حاز موهبة جمعت بين أهم مزايا اسماعيل عبدالمعين في اهتمامه بالتراث الموسيقي و الغنائي في بلادنا المترامية الأطراف، و التاج مصطفى في عنايته بصوته و قدرته على تلوينه، العاقب محمد حسن في انضباطه الايقاعي و اللغوي، و عثمان حسين في استغراقه في تفاصيل الحانه و تجويدها. لكنه ايضا كان شديد الإعجاب بحسن عطيه، و قد نذر الكابلي البوماً كاملاً بصوته لأغنيات ابوعلي الذي اعتبره رائدا في مجاله. كان الكابلي حفياً بعبد الدافع عثمان، كما قال في أكثر من لقاء، و معجباُ بأحمد المصطفي و عثمان حسين ، و الشفيع الذي ردد كثيرا من اغنياته، بل ان تأثره و حبه للشاعر الملحن محمد عوض الكريم القرشي، رفيق الشفيع، قد تجلي في زيارة كابلي لقرشي إبان رقدته الأخيرة بالقسم الجنوبي بمستشفى الخرطوم، حين أجهش كلاهما بالبكاء وهما يستعيدان شعرا أنشآه معا في اوقات سلفت. و من بين من أعجب بهم كابلي كان الأستاذ عبدالعزيز داؤد الذي تغني من تأليف كابلي بأغنية ما زالت تفرد اجنحتها في سمائنا، ، هي اغنية يا زاهية..
و الحال كذلك، فإن كابلي في ولعه و صناعته للغناء، كان مُعبّراً عن مرحلة امتدت عقوداً في تاريخ الغناء السوداني، فقد تغني بكثير مما صاغه الآخرون كالشفيع و الكاشف و احمد المصطفي، إلى جانب ما جاء به هو شعراً و لحناً و ما موْسق من اشعار غيره، و انشغل بما توارث الناس من الغناء التراثي و المديح النبوي . و قد كان ولعه باللغة العربية و الشعر العربي قديمه و حديثه جسراً عبر به نحو (الندوة الثقافية) التي احتفى به مضيفَها الأستاذ عبدالله حامد الأمين، و تعرف إلى روادها الكُثر الذين صاروا أصدقاءه و معجبيه و نقاده. و من أجواء جلساتهم تلك اقتنص نصوصاً شعرية أشعلت خياله الموسيقي، فأفاء على مستمعيه بخرائده الخالدة: آسيا و افريقيا و حبيبة عمري و ضنين الوعد و غيرها. و قد كان وجوده بين اولئك الأدباء و الشعراء خير برهان على قدرة عناصر الإبداع المتعددة على التلاقي و التلاقح، و خلق ما يعبر عنها جميعا. فالأغنية ليست محض شعر و موسيقى، بل هى لمحة من حياة الناس و شريحة من ثقافتهم، و هذا ما طمح كابلي لتجسيده من خلال إنتاجه الغنائي الغزير.
يحتل الأستلذ كابلي مكاناً مرموقاُ بين من عٌرفوا بالشعراء الملحنين ، بدءاً بخليل فرح و البنا و عبوراً بعبدالرحمن الريح، ود القرشي، عوض جبريل، محمد وردي و صلاح مصطفى. و له مكانة بين ملحني النصوص غير الدارجة، كعثمان حسين ( الفراش الحائر ) و احمد المصطفي ( وطن النجوم ) و وردي ( مرحبا يا شوق ) و العاقب ( يا حبيب العمر) و غيرهم، بل إنه أكثرهم حظاً في تناول تلك القصائد الفصحي قديمها و حديثها. وهو بلا شك احد الذين اسهموا في تطوير القالب الموسيقي لأغنية الإذاعة السودانية و إثرائها إلى جانب كبار الملحنين من أمثال برعي دفع الله و بشير عباس و احمد زاهر و عبداللطيف خضر و الفنانين ذوي الشأن كالكاشف و محمد الأمين و ابوعركي البخيت.
و إذا ما تأملنا مسيرته، ستتوالى علينا أسئلة تصعب الأجابة عليها في مقال كهذا. فكيف لأنشودة آسيا و افريقيا بما فيها من سعة الخيال الموسيقي و التنويع الذي يستجيب للنص الشعري في سلاسة و يسر، أن تكون أول اغنية يؤديها كابلي ( الذي لم يكن فناناً معتمدا بالاذاعة) أمام الجمهور؟ كان ذلك على خشبة المسرح القومي احتفاء بضيف البلاد الكبير ، الرئيس جمال عبدالناصر عام ١٩٦٠؟ تلك أغنية حملت كابلي الي الصف الأول بين الفنانين رغم حداثة ظهوره بينهم. فلابد أن لكابلي غيرها من تجارب التلحين السابقة ما اهله للخوض في تجربة آسيا و افريقيا.
و قد ذكر كابلي أن لفيفاً من أصدقائه و بعض مسئولي وزارة الإعلام سعوا إليه طلباً لمشاركتة في الاحتفاء بجمال عبد الناصر في زيارته الأولى للسودان ، بعد أن سمعوا بمواهبه . فكان أن أعد انشودة آسيا و افريقيا التي تعكس صورة باذخة لدول عدم الانحياز التي اجتمع رؤساؤها في بانودونج باندونيسيا في ابريل من عام ١٩٥٤، و كان سيسند اداءها لفنان آخر، لكنه انصاع لرغبة أصدقائه في أن يؤديها بنفسه.
كان كابلي محبا لعبدالناصر، و كانت انشودة آسيا و افريقيا تشير إلي جمال عبدالناصر صراحة ضمن آخرين أذ يرد فيها:
مصر يا ام جمالٍ ادأم صابر
ملء روحي انت يا اخت بلادي
سوف نجتث من الوادي الأعادي
إلا ان لكابلي عملاً آخر يفيض بلايجابية و التفاؤل عُرف باسم (اغنية جمال عبدالناصر) سخره لمدح الزعيم عبدالناصر يقول في مطلعه:
أقبل الصباح مشرقا وزاهر
حدث البطاح عن زعيم زائر
عزمه رياح ملهم و ثائر
أسمر الوشاح و اسمه ناصر
و قد سألت كابلي ذات ليلة أقلّني فيها بسيارته نحو امدرمان، عقب أمسية حاورته فيها ضمن نشاط مسائي لجمعية السهم الثقافية بالعمارات( لعل الصديق مصطفى بحيري و آخرين يذكرون تلك الامسية) قلت له هل ما زلت ناصرياً بعد كل هذه المياه التي مرت تحت الجسر؟ قال ما زلت قومياً عربياً و ناصرياً .. و لكني سوداني في المقام الأول. فأنا رغم اعجابي بعبدالناصر لم أكن سعيدا بما حدث في حلفا من تهجير و محوٍ لجزء عزيز من ترابنا و تراثنا و تاريخنا الوطني. صمت ثم قال : حدث أن جاءني أصدقاء سياسيون قبيل ثورة اكتوبر ٦٤ و طلبوا مني أن أعد عملاً يناهض نظام عبود ، شرعت فوراً في إعداد نشيد، لكنه لم ير النور لأسباب لست اذكرها الآن. قلت ليتك وثقت لذلك. قال ليس الوقت مناسبا فقد تغير الحال.
لم تحُل ناصريةُ كابلي دون استعداده للمشاركة في احتفال الحزب الشيوعي السوداني الذي اقيم في ٢ مايو ١٩٨٥ بالميدان الشرقي بجامعة الخرطوم احتفالا بعيد العمال و بخروج قيادة الحزب إلى العلن بعد اختفاء دام لسنوات طوال اعقبت حركة ١٩ يوليو ١٩٧٠. جاء كابلي، الذي كان مدعواً من لجنة الاحتفال، في موعده المضروب بكامل فرقته و ظل منتظراً خلف المسرح إلى نهاية الإحتفال الذي احتل فيه محمد وردي الخشبة إلى ما بعد موعدحالة الطوارئ رغم علمه بحضور كابلي و مصطفى سيداحمد بفرقتيهما للمشاركة في الاحتفال! كان ذلك تصرفاً عوتب عليه الاستاذ محمد وردي لتنكره لتقاليد رعاها كبار الفنانين و رسخوها فيما بينهم لعقودٍ خلت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *