( عبدالله محمد عبدالله )
عندما ولجت بيته في حي الشعبية ببحري ضحى ذلك اليوم من ديسمبر عام ١٩٩٠، كان عبدالكريم الكابلي قد بدأ طقوسه اليومية، فاستضافني بفنجان من القهوة بينما كانت تقاسيم العود تملأ الصالون. قال كابلي و هو يعيد فنجانه الي المنضدة : شوف يا عُبد .. بقدر ما قد تدهشك عبقرية رياض السنباطي في التقاسيم دي بقدر ما يدهشك تميّز صوت هذا العود الذي رعته أسرة السنباطي لما يفوق القرن من الزمان هذه الرخامة في صوت العود تراكمت على مر السنين، كالحكمة في الذهن البشري! و قد كان محقاً في ملاحظته ، إذ كان لصوت ذلك العود من النقاء و القوة ما لا يضاهى. قال كابلي متحسراً : ياريت لو اهل خليل فرح احتفظوا بالعود اللي رافقه في حياته القصيرة العامرة!
و الآن يحق لنا التساؤل عن مقدار الرعاية التي حظيت بها أعواد عثمان حسين، التاج مصطفي او محمد وردي وبرعي و غيرهم من المبدعين الراحلين . لقد كان معلوماً ان أحد اعواد الأستاذ الرائد اسماعيل عبدالمعين قد انتهى إلى يد تلميذه عثمان أدهم. ظهر ذلك العود خلال جلسات المجمع الموسيقي العربي العاشر التي عقدت بالخرطوم في العام ١٩٨٧، و قال عنه الموسيقار جمعة جابر وقتها (إن عود عبدالمعين ظل يعاني من عدم انضباط مزمن ). لكنه كان موجودا. و كان ذلك كافيا. و مما يثلج القلب أن ذوي الموسيقار الراحل بشير عباس يولون إرثه الموسيقي من العناية ما يستحق.
ظل كابلي خلال ذلك اللقاء يداعب ابناً صغيراً أشقر الشعر، كان يناديه بسعد العكروت. قال له : دي اسمها تقاسيم على العود، حتعرف عنها لما تكبر شوية. ثم حكى لي عن رحلة له إلى مصر كانت برفقة حسين خوجلي، طافا خلالها بتجمعات الطلاب السودانيين بمصر . كان حسين، كما اتضح لاحقا، في مهمة دعائية يلتمس خلالها دعم الطلاب لنظام الانقلابيين الاسلامويين، مستغلاً اسم فناننا الكبير في جذب الطلاب، لكنه أخفى ذلك الهدف عن كابلي مدعياً أنهما إنما سيزوران مصر خدمةً للثقافة السودانية ونشر فنونها الشعبية، خاصة الغناء الشعبي الذي برع كابلي في تقديمه أداءً و تأرخةً و شرحاً.
لكن ذيوع خبر مرافقة الأستاذ كابلي لحسين خوجلي في تلك الرحلة أدى إلي مقاطعة الكثيرين من معجبيه لحفل الكريسماس الذي أُقيم على مسرح صالة سباق الخيل بالخرطوم ذلك الشتاء ، فتكبد صديقي العزيز رجل الأعمال الفاضل خضر المأمون خسارة مالية، لم يمحُ أثرها إلا ظهور الفنان الكبير شرحبيل أحمد، في ليلة راس السنة في تلك الصالة، التي شهدت غرفتها الخلفية دموع كابلي التي فاضت تحسراُ، حينما صارحته بسبب إحجام جمهوره عن ارتياد ذلك الحفل.
في تلك الليلة، كان الأمر الذي اعتبره البعض معقولا و عادياً شديد الوطأة على قلب كابلي .و قد كان محزناً ألّا يعصم وعيُ عبدالكريم الكابلي بمجريات الأمور السياسية رجلاً في مقامه من الوقوع في ذلك المأزق الذي دبّره من لا يكنون له من الحب و التقدير ما ظنّه فيهم.
خلال عدة أعوام سبقت ذلك العام درج كابلي على إقامة (حوليته) السنوية في قاعة الصداقة، يلتقي فيها بأصدقائه و معجبيه و يدفع إليهم بجديده المنتقي و قديمه المعتّق. و قد كانت حقاً مما يطمح قوم كابلي لارتياده، و لم لا؟ فقد كان الاستعداد لتلك الليالي يقتضي جهدا متصلاً من كابلي و من فريقه الموسيقي المتميز و الكورس الذي كان يُنتقى بعناية من طالبات و طلاب قسم الموسيقى بالمعهد العالي للموسيقى و المسرح، حيث يكون المران وسيلة للتجويد و التجديد! وفي اللحظة الفاصلة بين عام ٍ ينقضي و عام ٍ يستجد، كان كابلي يقود جمهوره في أداء جماعي لنشيد الوداع ( هل ننسى أياما مضت) فيتهدج صوته في انفعال تهتز له جنبات قاعة الصداقة تجاوبا.
شهدتْ تلك الليالي الثمانينية قمة النضج الفني لكابلي، الذي كان وقتها قد أنجز أعظم أعماله الغنائية و نال مجداً كالذي ناله سابقوه، حسن عطية، الكاشف، العميد، التاج، و ابوعفان، و ما حظي به مجايلوه من أمثال وردي و ابراهيم عوض. و قد ترسخ الإعجاب بكابلي ، بألحانه ذات التنوع و صوته المتفرد، و بما امتاز به من لباقة في الحديث و فهم عميق للتراث الشعبي في شمال الوطن و اواسطه، و بقدرته على أداء ما انتقى منه.
قبل ذلك الزمن، في مطلع الثمانينات، كان كابلي قد أعلن نيته السفر و البقاء في السعودية للتفرغ لإعداد كتاب عن الشعر الشعبي السوداني، و كان الأمر مثيراً للاستغراب، إذ أنه سيترك وراءه ذلك الشعر، مصادراً و رواةً. فاعددتُ مقالاً قصيراً تناولتُ فيه ما اعتبرته وقتها خداعاً من كابلي لجمهوره، و قلت إنه قد يعود من ذلك الاغتراب، و إن استطال، أكثر ثراءً و أقل شعبيةً و بلا كتاب ٍ يضاف الي المكتبة السودانية. و لكني تعرضتُ قبل نشر ذلك المقال إلي انتقادٍ لمفردات اعتُبرت جارحة لكابلي، من قبل فضل الله محمد رئيس تحرير جريدة الصحافة و د. منصور خالد رئيس مجلس إدارتها و نورالدين مدني سكرتير التحرير و من رئيسي المباشر سليمان عبدالجليل الذي انكر معرفته بما سطرت. فانظر إلى ما تمتع به كابلي من حصانة و حماية كادت ان تودي بكامل مقالي الى سلة المهملات، لو لا أن تطوّع الاستاذ نورالدين مدني بتحريره و تخفيف لهجته كثيراً ، فانتهى خبراً غامضاً، بلا صورة لفنان و بلا اسم لكاتب!!
و الباحث في سيرة كابلي سيجد الكثير المثير الخطر، كما جاء في أغنيته( حبيبة عمري) و انا لست هنا بصدد ذلك، و لكني سأشير إلى بعض ما لفت نظري في مسيرتة الفنية التى نالت ما استحقت من توثيق باقلام نذرت حبرها لذاك الغرض النبيل. أما أبناء جيلي، الذين نشأت اسماعهم على أغاني عبدالكريم الكابلي و رصفائه من الفنانين، فلا بد لهم من تناول تلك الأغاني و من اتحفونا بها بالنظر و التقصي.
فما الذي أضافه نهر عبدالكريم الكابلي الدفاق إلى ذلك البحر الشاسع من الغناء و الموسيقى في بلادنا؟