أكثر من نصف سكان هذا البلد الذي يبلغ تعداده 50 مليون نسمة يعانون من الجوع الشديد، وتشير التقديرات إلى أن المئات يموتون من الجوع والأمراض المرتبطة به كل يوم.
لكن المساعدات الدولية المنقذة للحياة، مثل زيت الطهي والملح والحبوب والعدس وغير ذلك، لا تصل إلى ملايين هم في أمس الحاجة إليها. ومن بين هؤلاء راعوس فليج، وهي أم لتسعة أطفال تبلغ من العمر 39 عاما.
وتعيش راعوس في مخيم مترامي الأطراف للنازحين في منطقة بُرام بولاية جنوب كردفان، حيث نزحت فرارا من القتال الذي أشعله اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع .
ومنذ حطت الرحال في المخيم قبل تسعة أشهر، لم تصل مساعدات الأمم المتحدة الغذائية إلا مرة واحدة، في مايو /أيار. وقالت إن حصة أسرتها نفدت في غضون عشرة أيام. ويقع المخيم، الذي يقطنه ما يقدر بنحو 50 ألف شخص، في منطقة يديرها متمردون محليون يسيطرون على نحو نصف الولاية. ويقول مسؤولون في مجال الإغاثة إن الجيش السوداني لا يسمح بوصول معظم المساعدات إلى المنطقة لأنه يمنع عبورها من مناطق سيطرته.
لذلك، بعد فجر كل يوم، تقطع راعوس وغيرها من نساء المخيم اللاتي تظهر عليهن علامات الهزال رحلة تستغرق ساعتين إلى أحراش قريبة لجمع أوراق الشجر. وفي إحدى المرات، تناول عدد منهن الأوراق الجافة لسد جوعهن. وعند العودة إلى المخيم، طهت النساء الأوراق مع بذور التمر الهندي لتخفيف مرارة طعمها.
وبالنسبة لراعوس وآلاف أخريات في المخيم، فهذه العصيدة هي الوجبة الأساسية. ولكنها لا تكفي لسد الرمق. ويقول الأطباء في المخيم إن بعضهن مات جوعا. وكانت والدة راعوس واحدة منهن.
وقالت راعوس “جئت إلى هنا ولم أجد شيئا أتناوله. هناك أيام لا أعرف فيها ما إذا كنت على قيد الحياة أم ميتة”.
وهناك نظام عالمي متطور لمراقبة الجوع في الأماكن المعرضة للخطر ومعالجته. ويتألف هذا النظام من وكالات الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية غير حكومية والدول الغربية المانحة وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وتوفر هذه الجهات الخبرة الفنية لتحديد مناطق الجوع وتقدم مليارات الدولارات من التمويل كل عام لإطعام المحتاجين.
والسودان مثال صارخ لما يحدث عندما تتعطل المرحلة الأخيرة الحاسمة في هذا النظام المتشابك، وهي تسليم الغذاء إلى الجوعى. ويكشف هذا عن فرضية هشة يقوم عليها النظام وهي أن الحكومات في البلدان التي تعاني من المجاعة سوف ترحب بالمساعدات.
وفي بعض الأحيان، في السودان وأماكن أخرى، تمنع الحكومات والأطراف المتحاربة مقدمي المساعدات الأساسيين، بما في ذلك برنامج الأغذية العالمي وهو الذراع الرئيسية للأمم المتحدة للإغاثة الغذائية، من توصيل الطعام للجوعى. وفي بعض الأحيان تكون هذه المنظمات عاجزة أو خائفة من التحرك ضد هذا المنع.
في أغسطس/ آب، ذكر التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، وهو آلية رائدة لمراقبة الجوع في العالم، أن الحرب في السودان والقيود المفروضة على تسليم المساعدات تسببت في مجاعة في مكان واحد على الأقل، في ولاية شمال دارفور، وأن مناطق أخرى من البلاد قد تعاني من المجاعة.
في وقت سابق، أعلن التصنيف أن تسعة ملايين شخص، أي ما يقرب من خمس سكان السودان، يعيشون في حالة طوارئ غذائية أو أسوأ، وهذا يعني أن هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات فورية لإنقاذ الأرواح.
كانت هذه هي المرة الرابعة فقط التي يصدر فيها التصنيف تقريرا عن حدوث مجاعة منذ إنشائه قبل 20 عاما. لكن رغم التحذيرات الشديدة التي أطلقها هذا العام، فإن الغالبية العظمى من السودانيين الذين يحتاجون بشدة إلى مساعدات غذائية لا يحصلون عليها.
وهناك عقبة رئيسية تتمثل في أن الجهة الرئيسية للمساعدات، وكالات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة، لن توزع المساعدات دون موافقة الحكومة السودانية المدعومة من الجيش، والتي تعترف بها الأمم المتحدة.
وقال كريستوس كريستو رئيس منظمة أطباء بلا حدود، التي تعمل في دارفور، إن أجزاء من السودان أصبحت بلا أي مساعدات إنسانية وإن الأمم المتحدة “في سبات”.
* ارتفاع عدد الوفيات
في هذه الأثناء يموت الناس. وجد تحليل أجرته رويترز لصور الأقمار الصناعية أن المقابر في دارفور تتوسع بسرعة مع تفشي المجاعة والأمراض المصاحبة لها.
وقال وزير الشؤون الأفريقية البريطاني راي كولينز للبرلمان هذا الشهر إن أكثر من 100 شخص يموتون يوميا بسبب الجوع.
ويجري توزيع المساعدات على نطاق أوسع بكثير في المناطق التي يسيطر عليها الجيش. لكن موظفين في مجال الإغاثة يقولون إن الجيش لا يريد أن تقع المواد الغذائية في يد القوات المعادية في المناطق التي لا يهيمن عليها ويستخدم تكتيكات التجويع ضد المدنيين لزعزعة استقرار هذه المناطق.
وتمنع الحكومة المدعومة من الجيش، والتي تتخذ من بورتسودان مقرا لها، تسليم المساعدات من خلال رفض أو تأخير تصاريح السفر والموافقات، مما يجعل من الصعب الوصول إلى المناطق التي يسيطر عليها طرف مناوئ.
وفي محاضر اجتماعات داخلية اطلعت عليها رويترز، ذكر منسقو لوجستيات تابعون للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية على مدى أربعة أشهر متتالية من مايو أيار إلى أغسطس ، أن السلطات السودانية ترفض إصدار تصاريح سفر لقوافل المساعدات إلى أماكن في جنوب كردفان ودارفور.
وقال عشرات من موظفي الإغاثة لرويترز إن تردد الأمم المتحدة في مواجهة حكومة السودان بشأن حجب المساعدات جعلها أسيرة لقرارات الحكومة.
وقالت ماتيلد فو مديرة المناصرة لدى المجلس النرويجي للاجئين في السودان “الأمم المتحدة مترددة جدا وتنقصها الشجاعة في كشف العرقلة المتعمدة لوصول المساعدات في هذا البلد”.
وأشار أربعة مسؤولين في الأمم المتحدة، طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، إلى أنهم يخشون إذا تحدوا الجيش، أن يتم طرد عمال الإغاثة والوكالات الإنسانية من السودان. ويستشهدون بعام 2009، عندما طرد الرئيس السابق عمر البشير 13 منظمة إغاثة غير حكومية بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وقال إيري كانيكو المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إن منظمات الإغاثة “تواجه تحديات خطيرة” في الوصول إلى المحتاجين في السودان. وتشمل هذه التحديات الوضع الأمني الهش وحواجز الطرق والنهب والسلب و”القيود المختلفة التي فرضها طرفا الصراع على حركة الإمدادات الإنسانية والأفراد”.
وقال برنامج الأغذية العالمي إنه ساعد 4.9 مليون شخص هذا العام في جميع أنحاء السودان. وهذا يعادل شخصا واحدا فقط من كل خمسة من بين 25 مليون شخص يعانون الجوع الشديد. ولم يذكر البرنامج عدد المرات التي تلقى فيها هؤلاء المساعدات أو مقدار ما حصل عليه كل شخص.
وأظهرت تغطية رويترز أن الطرف الآخر في الصراع، قوات الدعم السريع، تستخدم أيضا الغذاء سلاحا. ويخوض الجانبان، الحليفان سابقا، حربا منذ 17 شهرا للسيطرة على البلاد.
ونهبت قوات الدعم السريع مراكز المساعدات ومنعت وكالات الإغاثة من الوصول إلى المناطق المعرضة لخطر المجاعة، ومنها مخيمات النازحين في دارفور ومناطق في ولاية جنوب كردفان. كما نفذت قوات الدعم حملة تطهير عرقي بحق قبيلة المساليت في دارفور، مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من ديارهم وخلق ظروفا أدت إلى مجاعة.
* كسر الجمود
يدعو البعض في الأمم المتحدة واشنطن وحلفاءها إلى بذل مزيد من الجهود لكسر الجمود. ومن بين هؤلاء جاستن برادي، رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان. ويقول إنه يتعين على الدول المانحة الرئيسية، وفي المقام الأول الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، التواصل مباشرة مع الحكومة السودانية في بورتسودان. وبعد استيلاء الجيش على السلطة في انقلاب عام 2021، قطعت الولايات المتحدة المساعدات الاقتصادية عن السودان. ويتم توجيه التمويل الغربي للمساعدات الغذائية من خلال الأمم المتحدة بالأساس.
وقال برادي “الحكومات المانحة هي التي تملك أوراق ضغط… تُركنا بمفردنا” لنتعامل مع السلطات السودانية.
وذكر توم بيرييلو المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان أن الجيش وقوات الدعم السريع يتحملان مسؤولية أزمة الغذاء في البلاد. وأضاف لرويترز “هذه المجاعة لم تحدث بسبب كارثة طبيعية أو جفاف… سببها رجال، وهم نفس الرجال الذين يمكنهم اختيار إنهاء هذه الحرب وضمان الوصول دون عوائق إلى كل ركن في السودان”.
ولم ترد الحكومة السودانية المدعومة من الجيش وقوات الدعم السريع على أسئلة تتعلق بهذا التقرير. وتبادل الطرفان المتحاربان الاتهامات بالمسؤولية عن تأخير تسليم المساعدات. وقال قائد الجيش السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) هذا الأسبوع إنهما ملتزمان بتسهيل تدفق المساعدات.
وقد يأتي عائق آخر من داخل برنامج الأغذية العالمي نفسه. فقد هزت البرنامج مزاعم فساد تشوب عملياته بالسودان، وهو ما يخشى مسؤولون في مجال الإغاثة ودبلوماسيون من أن يؤثر على تدفقات المساعدات. وكشفت رويترز في أواخر أغسطس أن البرنامج يحقق مع اثنين من كبار مسؤوليه في السودان في مزاعم بالاحتيال وإخفاء معلومات عن المانحين حول دور الجيش في عرقلة المساعدات.
تأتي الفوضى في السودان في وقت يواجه فيه نظام مكافحة المجاعة العالمي أحد أصعب اختباراته منذ سنوات. وتشير تقديرات التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى أن 168 مليون شخص في 42 دولة يعانون من أزمة غذائية أو أسوأ، وهذا يعني أنهم يعيشون في مناطق حيث يعاني ما بين 10 بالمئة وأكثر من 30 بالمئة من السكان من سوء التغذية الحاد. ومثل السودان، هناك كثير من المناطق التي تعاني من أسوأ درجات الجوع وهي أيضا مناطق صراع، ومنها ميانمار وأفغانستان وجنوب السودان وهايتي ونيجيريا وغزة. والحرب تزيد من صعوبة تدخل المجتمع الدولي.
وفي السودان، زار فريق من رويترز في يونيو /حزيران ويوليو /تموز أجزاء من ولاية جنوب كردفان التي تديرها الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، وهي جماعة متمردة تقاتل الجيش منذ سنوات. وسافر الصحفيون إلى المدن ومخيمات النازحين التي لم يتلق كثير منها مساعدات غذائية منذ أشهر. ووسعت الحركة الشعبية كثيرا مساحة الأراضي التي تسيطر عليها في جنوب كردفان منذ بداية الحرب.
وتحدثت رويترز أيضا مع أكثر من 30 من مسؤولي الإغاثة التابعين للأمم المتحدة والدبلوماسيين والعاملين في المنظمات غير الحكومية، وبعضهم في ولاية جنوب كردفان، واطلعت على السجلات الطبية لعشرات الأطفال الذين تم تشخيص إصابتهم بسوء التغذية الحاد في الولاية.
* “قتلها الجوع”
قبل الحرب، بلغ عدد سكان جنوب كردفان نحو مليوني نسمة. وتزايدت الحاجة إلى المساعدات الخارجية مع تدفق نحو 700 ألف نازح إلى المخيمات والمدن في مناطق خاضعة لسيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال منذ اندلاع الحرب.
وكانت مخزونات الغذاء في الولاية منخفضة بالفعل قبل الحرب. والجراد الذي التهم المحاصيل فاقم مشكلة ضعف الحصاد عام 2023. وزادت الحرب وتدفق اللاجئين الأمور سوءا.
وفي المناطق التي زارتها رويترز، كان الجوع والمرض في كل مكان. وفي مخيم بمحلية أم دورين في ولاية جنوب كردفان يقطنه نحو 50 ألف شخص، كان الأطفال يموتون من سوء التغذية والإسهال على مدى العام الماضي، حسبما قال عبد العزيز عثمان وهو زعيم محلي بالمنطقة.
ويرى العاملون في مجال التغذية في مركز علاجي بالمخيم 50 حالة شهريا من الأطفال والأمهات الذين يعانون من سوء التغذية. وقبل الحرب، كان الفريق الطبي يعالج ما بين خمس إلى عشر حالات من سوء التغذية شهريا في المنطقة بأكملها.
وفي مخيم في بلدة بُرام، وقف أطفال صغار، ببطون منتفخة وأذرع نحيلة، خارج أكواخ مصنوعة من العصي والبلاستيك والأقمشة نهبا للمطر والأفاعى والعقارب.
ووصلت راعوس فليج، المرأة التي تصنع العصيدة من أوراق الشجر، إلى المخيم قادمة من كادقلي، عاصمة ولاية جنوب كردفان، في ديسمبر كانون الأول مع والدتها وستة من أطفالها. وتركت وراءها ثلاثة من أطفالها مع زوجها، وهو جندي في الجيش السوداني. وقطعوا رحلة خطيرة سيرا على الأقدام عبر جبال النوبة، وهي منطقة تقطنها مجموعة مختلطة من الجماعات العرقية.
وتنتمي راعوس إلى قبائل النوبة التي تشكل قاعدة الدعم الرئيسية للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال. وتقول راعوس التي نشأت في كادقلي إنها شهدت قصفا جويا متكررا من القوات الحكومية.
ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين حين كانت فتة صغيرة، ألقت طائرات مقاتلة براميل متفجرة على منزلها. وتوفي سبعة من أفراد عائلتها، منهم والدها وشقيقان. وتتذكر أنها دُفنت تحت الأنقاض. ونجت والدتها.
وقالت وهي تحمل زجاجة بلاستيكية مملوءة بالماء وتسكبها على الأرض “الدم بيسيل زي ده”.
بعد 13 عاما، قُتل أقارب زوجها وشقيقان آخران في غارة جوية أخرى شنتها القوات الحكومية. وتوفي شقيق ثالث في المستشفى بعد أن فقد اثنين من أطرافه في الهجوم. ومرة أخرى، نجت هي ووالدتها.
وبعد وصولهم إلى بُرام، شعرت الأم بالضعف يدب في أوصالها. ولم تجد ما تقتات به، فأعطتها راعوس بعض الماء مع البذور لتشربه. لكن ذلك أصابها بإسهال. وقالت راعوس إن الأطباء في عيادة قريبة قالوا إن والدتها تعاني من الجفاف والجوع.
في مساء الخامس من يناير كانون الثاني، تحسست راعوس صدر والدتها للتأكد من أنها ما زالت تتنفس. لكنها كانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة. وبعد أن نجت من أكثر من ضربة جوية على مدى سنوات، “قتلها الجوع”، على حد قول راعوس.
* منع الوصول
تواجه منظمات الأمم المتحدة عقبات كؤود في عملها بجنوب كردفان. وقالت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) إنها لا تقوم بأي عمليات في مناطق الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال.
ويقول مسؤولو مساعدات في الأمم المتحدة إن من الصعب توصيل المساعدات الغذائية والطبية إلى مناطق الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال في الولاية. وقال برنامج الأغذية العالمي إن نحو 135 ألف شخص في هذه المناطق تلقوا مساعدات حتى الآن هذا العام. ووصف البرنامج هذه المساعدات بأنها “حصة تكفي ثلاثة أشهر”. وقالت وحدة مراقبة الأمن الغذائي، وهي منظمة غير حكومية تعمل في المنطقة، إن نحو 1.3 مليون في المنطقة يعانون من الجوع الشديد.
ودعا جمعة إدريس، المدير الإقليمي لذراع المساعدات الإنسانية في الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، الأمم المتحدة إلى كسر الحصار الذي يفرضه الجيش. وقال إدريس “الحكومة تستخدم الغذاء سلاح حرب… ويجب على وكالات الأمم المتحدة ألا تسمح بهذا. الناس يتضورون جوعا”.
وفي عاصمة الولاية، كادقلي التي كانت تعيش فيها راعوس، هناك تعقيدات إضافية تتمثل في الاضطرار إلى التعامل مع ثلاثة أطراف متحاربة. يسيطر كل طرف على قسم مختلف من الطريق السريع الرئيسي المؤدي إلى المدينة. لكن قوات الدعم السريع والميليشيات العربية المتحالفة معها أغلقت الطريق إلى حد كبير، وفقا لمسؤولين كبيرين في الأمم المتحدة.
ومع تناقص الإمدادات في المدينة، أصبحت المواد الغذائية القليلة المتاحة للبيع، وهي أساسيات مثل زيت الطهي والذرة، باهظة الثمن ولا يستطيع السكان شراءها، وفقا لعدد من السكان الذين فروا من المدينة. واضطر التجار إلى دفع أتاوات لقطاع الطرق لنقل المنتجات إلى كادقلي، وهذا أدى إلى ارتفاع الأسعار. والمال شحيح، ولا عمل، والحرب دمرت النظام المصرفي في السودان.
ويقول بعض سكان كادقلي إن الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال هي المسؤولة أيضا عن شح الغذاء. ويواجه التجار الذين يحاولون الوصول إلى المدينة صعوبة في المرور عبر حواجز الطرق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال. وتقول الحركة إنها سيطرت على جزء من الطريق لحماية أهل النوبة من الجيش وقوات الدعم السريع.
ويُظهِر سجل شحنات أصدره برنامج الأغذية العالمي أن آخر مرة وصلت فيها مساعدات غذائية إلى كادقلي كانت في أكتوبر تشرين الأول 2023. وفي يونيو من هذا العام، حاولت الأمم المتحدة مرة أخرى إرسال قافلة إلى المدينة. لكنها عادت أدراجها في غمرة القتال.
وقال برادي، رئيس مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان “كان الوضع محفوفا بالمخاطر، وكان من الممكن أن نفقد معداتنا وربما بعض الموظفين… سحبنا البعثة إلى بورتسودان. إنه وضع محبط جدا لنا”.
ومواجهة الحكومة بشأن عرقلتها للمساعدات الغذائية قد تنطوي على مخاطر.
في العام الماضي، أعلن البرهان أن فولكر بيرتس، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان، شخص غير مرغوب فيه في البلاد. واتهم البرهان بيرتس بالتحيز، دون تقديم أدلة. واستقال بيرتس من منصبه لاحقا.
وقال بيرتس لرويترز إن السلطات السودانية أزعجها أشارته إليها باعتبارها “طرفا متحاربا” وليس حكومة شرعية. وأضاف بيرتس موضحا سبب استقالته أنه حين يُمنع دبلوماسي من دخول دولة أو “يقول طرف ما إنه لا يريد العمل معك” يصبح من الصعب القيام بالمهمة.
* خلفية جيوسياسية صعبة
قال كريس وليمان، الذي عمل سابقا مع برنامج الأغذية العالمي في السودان، إن مسؤولي الأمم المتحدة “يخشون من إغضاب الحكومة ومن أن يصبح الوضع أسوأ مما هو عليه بالفعل… قد تأتي الحكومة إلى مكاتبهم وتقول ‘عليكم أن ترحلوا‘”.
ولا يعتقد كل المسؤولين في الأمم المتحدة أن الحكومة سترد على الفور إذا تم تحديها في مسألة المساعدات الغذائية. وقال مسؤول كبير في الأمم المتحدة في بورتسودان إن الحكومة تعتمد بشكل كبير على المساعدات لإطعام ملايين الأشخاص في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ولن تخاطر بقطع شريان الحياة هذا بوقف عمليات الأمم المتحدة.
والمساعدات المحدودة التي تصل أي منطقة بدون موافقة الحكومة تسلمها في الغالب منظمات إغاثة غير حكومية. ورغم أن منظمات الإغاثة الدولية قد تقرر عبور الحدود الوطنية في حالة الأزمات بدون إذن، لا تستطيع الأمم المتحدة أن تفعل ذلك وتحتاج إلى موافقة الحكومات للعمل في بلد ما أو تفويض من مجلس الأمن الدولي.
وأصدر مجلس الأمن قرارين هذا العام، في مارس آذار ويونيو حزيران، دعا فيهما إلى وصول المساعدات الإنسانية “بدون عوائق” عبر الحدود وخطوط الصراع في السودان. ولم ينجح ذلك في كسر الجمود الذي يكتنف عملية توصيل المساعدات.
وقدمت الحكومة تنازلا محدودا في أغسطس آب ووافقت على إدخال المساعدات إلى منطقة في دارفور تخضع لسيطرة قوات الدعم السريع لمدة ثلاثة أشهر عبر معبر حدودي من مدينة أدري التشادية. لكن موسم الأمطار كان قد بدأ بالفعل وأعاق تسليم المساعدات لأن مياه الفيضانات غمرت الطرق وألحقت أضرارا بالجسور. وقال مسؤولون من الأمم المتحدة لرويترز إنه رغم عبور أكثر من 100 شاحنة محملة بالمساعدات من أدري، لا يزال العديد منها عالقا في ولاية غرب دارفور ولا تستطيع الوصول إلى وجهاتها.
وقال برنامج الأغذية العالمي إن المساعدات وصلت إلى 1.2 مليون شخص في مختلف أنحاء دارفور هذا العام، وأغلبها في مناطق لا تخضع لسيطرة الحكومة. ولم يحدد البرنامج عدد المرات التي حصل فيها هؤلاء الأشخاص على المساعدات أو مقدار ما حصلوا عليه. ويواجه سبعة ملايين شخص في دارفور الجوع الشديد.
وذكر اثنان من كبار المسؤولين في الأمم المتحدة أن قرارات مجلس الأمن التي صدرت هذا العام لم تكن فعالة. وأضافا أن المطلوب هو قرار يخول الأمم المتحدة بشكل واضح بتسليم المساعدات الإنسانية دون موافقة الحكومة.
ولم تساعد طريقة العمل داخل مجلس الأمن، وخاصة بين الخصمين روسيا والولايات المتحدة، في حل هذه المشكلة. وقال فولكر بيرتس مبعوث الأمم المتحدة السابق إلى السودان إن مجلس الأمن يجد صعوبة في التوصل إلى اتفاق بشأن قضايا جيوسياسية متعددة منذ اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وأردف قائلا “السودان ضحية لغياب الوحدة في مجلس الأمن”.
وأضاف “من الطبيعي أن تصبح الأمم المتحدة على الأرض فريسة سهلة لمن لا يريدون وجودها في الدولة المضيفة” ما دامت وحدة الصف غائبة في مجلس الأمن.
* “يا ريتني مت”
مع تفشي الجوع في ولاية جنوب كردفان، تضطر الأمهات إلى اتخاذ خيارات مؤلمة.
فكان على روضة تيا أن تقرر من الذي ستأخذه معها ومن ستتركه من أبنائها الأربعة عشر عندما تفر من كادقلي عاصمة الولاية. وقالت إن الأسرة ظلت تعيش على مدى شهور على عصيدة مصنوعة من أوراق الشجر والدقيق. وكان أولادها يتسولون في السوق للحصول على الدقيق.
وقررت المغادرة بعدما استبد الضعف بالصغار واحتدم القتال. واصطحبت معها في يونيو حزيران ثلاثة من أطفالها وتركت الباقين، ومن بينهم ابنان أكبر سنا يبلغان من العمر 16 و18 عاما. ولا تعرف شيئا عن مصيرهما.
وقالت مبررة قرارها “ماذا أفعل؟… إنه الجوع”.
عبروا جبال النوبة سيرا على الأقدام بعد مغادرتهم كادقلي. وسقط ابنها خليل (12 عاما) المنهك من الجوع واصطدم بشدة بصخرة غير أنه استطاع النهوض واستكمل السير.
ووصلوا بعد بضعة أيام إلى منطقة تسيطر عليها الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال. وأخذت الأم خليل إلى أقرب عيادة. وهناك التقى فريق رويترز بالأسرة لأول مرة. وكانت العيادة لا تضم إلا القليل من الموظفين والنذر اليسير من الأدوية. وكما هو الحال مع المساعدات الغذائية، لا تصل مناطق الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال في جنوب كردفان إلا إمدادات طبية محدودة.
وكان خليل يرقد على حشية مغطاة ببلاستيك أخضر ويتنفس بصعوبة. ولم تكن هناك أغطية أو وسائد على السرير. ولم يكن في وسع العيادة علاجه فأحالته إلى مستشفى أم الرحمة المجهز بشكل أفضل على بعد حوالي 100 كيلومتر.
وظلت روضة تبحث لمدة يومين عن أحد يقودها إلى هناك. والتقت بها رويترز مرة أخرى بعد وصولهم. وقال الطبيب الأمريكي توماس كاتينا، الذي يعمل في المنطقة منذ عام 2008، إن خليل خضع لعملية جراحية لعلاج تمزق في الأمعاء نتيجة سقوطه على الصخرة.
وكان خليل يرقد على السرير وعيناه الواسعتان تحدقان في لا شيء فقد أصيب بالعدوى ويعاني من حمى شديدة. وجلست الأم تمسح جبهته. وأوضح الطبيب أن خليل ضعيف جدا بسبب سوء التغذية لدرجة تجعله عاجزا عن مقاومة العدوى.
وتوفي في 25 يونيو حزيران.
ووقفت الأم في ممر المستشفى عاجزة عن دخول الغرفة التي ترقد فيها جثة خليل. فقد فرت من كادقلي لإنقاذه من الموت جوعا.
وتساءلت هل كان من الأفضل أن تبقى هناك حتى ولو كان ذلك يعني هلاك الأسرة بأكملها.
وظلت تردد بغضب “يا ريتني مت مع ابني”. (رويترز)